أمة الله
عدد المساهمات : 76 نقاط : 228 تاريخ التسجيل : 29/11/2009
| موضوع: الشيخ محمد حسان أكل مال اليتيم الجمعة ديسمبر 11, 2009 2:35 pm | |
| أكل مال اليتيم
إن الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }[آل عمران102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }[النساء1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70 } يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }[الأحزاب71،70 ]
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي نبينا محمد r ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أحبتي في الله :
هذا هو لقاءنا السادس مع السبع الموبقات التي حذر منها النبي r في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال:
(( اجتنبوا السبع الموبقات )) . قالوا : يا رسول الله وما هُنَّ ؟
قال (( الشرك بالله ، والسحرُ وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكلُ مال اليتيم ، وأكلُ الربا ، والتولي يوم الزحف وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمنات ))(1) .
ونحن اليوم على موعد مع الكبيرة الخامسة في هذا الحديث ألا وهي أكل مال اليتيم ..
ويا لها من كبيرة وقع فيها كثير من الناس نسأل الله السلامة والعافية . ونظراً لخطورة هذا الموضوع وطوله فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في العناصر التالية :
أولاً : من هو اليتيم .
ثانياً : مكانة اليتيم في القرآن والسنة وفضل كافله .
ثالثاً : عاقبة من يأكل مال اليتيم .
رابعاً : يُتم رغم وجود الوالدين .
وأخيراً : كيف تؤمن مستقبل ولدك بعد موتك ؟!
فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان .
أولاً : من هو اليتيم ؟
جاء في لسان العرب لابن منظور :
أن اليتيم في الناس من فقد أباه وأن اليتيم في الحيوانات ، والطيور من فقد أمه .
وهذه لطيفه لغوية دقيقة لها مغزى قَلَّ من ينتبه إليها .
وأصل اليُتم في اللغة هو الغفلة وبه سمي اليتيم يتيماً لأنه يُتغَافل عن بره بعد موت أبيه .
وأصله أيضاً الانفراد فكل شيء مفرد بغير نظيره فهو يتيم كما يقال درة يتيمة أي منفردة.
ثانيا : مكانة اليتيم في القرآن والسنة وفضل كافله .
لقد أولى القرآن الكريم عناية كبيرة باليتيم من الناحية النفسية والتربوية ، ومن الناحية المادية على السواء .
مراعاة لظروفه النفسية بعد فقده لأبيه إذ قد يصيبه شيء من الذل والانكسار والوحشة لا سيما إن كان أبوه ممن امتثل قول الله عز وجل وعلا :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]
ولقد ظهرت هذه العناية الكريمة باليتيم منذ الفترة الأولى لتنزل الوحي على قلب حبيبه الذي ولد يتيما فكان يُتْمُهُ تشريفاً لكل يتيم !!
فهو اليتيم الذي أعاد البسمة والسعادة لليتامى على ظهر الأرض وها هو ربنا جل وعلا يمتنُّ على حبيبه المصطفى بهذه النعمة والمنة فيقول :
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } [الضحى : 6-8]
أي ولدت يتيما فآواك الله .
وأحاطك بعنايته وحفظه وفضله .
وكنت فقيرا فأغنى الله نفسك بالقناعة والرضي ، ثم أفاض عليك الرزق الطيب الحلال ، وكنت تائها تبحث عن الطريق في بيئة جاحدة ونفوس شاردة ، وهاجرة محرقة فهداك الله وطمأن قلبك وشرح صدرك ، ورفع ذكرك ، ووضع وزرك .
ومن ثم بعد كل هذه النعم والمنن ، وبعد كل هذا الفضل والفيض يأتيه التوجيه الرباني الكريم :
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}
[الضحى : 9-11]
ومن هذا المنطلق الكريم بالاهتمام بأمر اليتيم .
يأمر الله جل وعلا بالمحافظة على أموال اليتامى ، وعدم تبديدها ، أو تبديلها بالخبيث أو المتاجرة بها فيما حرم الله عز وجل ، فإن هذه الأموال أمانة عند ولي اليتامى سيسأل عنها بين يدي الله جل وعلا . فيقول سبحانه :
{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء:2]
ويقول سبحانه : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام:152]ٍ
وأوجب الله على ولي اليتامى أيضا : ألا يُسْرِف في الإنفاق منها وحذره من المبادرة والإسراع إلى أكلها قبل أن يكبر أصحابها من اليتامى ليأخذوها فإن هذا من أعظم الذنوب والآثام .
وأوجب الله تعالى على ولي اليتامى إن كان غنيا أن يستعفف عن الأكل من أموال اليتامى وإن كان فقيرا فله أن يأكل بالمعروف من غير إسراف ، ولا تبذير وفي أضيق الحدود .
وأوجب الله على ولي اليتامى أيضا أن يرد أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا النكاح ، أو مرحلة الرشد والنضج ، وأصبحوا قادرين على تصريف أمورهم وتدبير شئونهم والمحافظة على أموالهم .
وأمره أن يُشْهِدَ عند دفع هذا المال إبراء للذمة ودرأ للشبهة .
ورأى الشافعية والمالكية أن الأمر هنا للوجوب ورأى الحنفية أن الإشهاد مندوب وليس بواجب .
فقال سبحانه : {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً } [النساء:6]
ومن الآيات القرآنية التي تؤكد وتُرَسَّخ هذه المعاني قول الله عز وجل : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء:34]
ويقول عز وجل : {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء:2]
ويقول عز وجل : {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً } [النساء:6]
ويا لها من خاتمة جليلة { وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً } .
فالله هو الرقيب عليكم الشهيد على أعمالكم ، وأقوالكم وأحوالكم يحاسبكم على ما أظهرتم وما أسررتم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .
وصدق الله إذ يقول :
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47]
ومن بين هذه الآيات القرآنية الكريمة هذه الآية التي تكرم اليتامى أعظم تكريم حيث يربط الله جل وعلا أمر الإحسان إليهم بعد الأمر بتوحيده وعبادته عز وجل . فيقول سبحانه :
{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [النساء:36]
ومع أن كل هذه الآيات السابقة تشتمل على اليتيم واليتيمة إلا أن الله جل وعلا قد خص اليتيمة أيضا بهاتين الآيتين زيادة في تأكيد حقها وتوضيحه فيقول سبحانه :
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} النساء3
يقول سبحانه :
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً}النساء127
وفي صحيح البخاري ومسلم وغيرهما أن عروة بن الزبير رضي الله عنه سأل عائشة رضي الله عنها عن الآية الأولى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }النساء3
فقالت عائشة رضي الله عنها : يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد ولُّيها أن يتزوجها بغير أن يُقسطَ في صَداقِها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره .
فنُهوا أن ينكوحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سُنَّتهنَّ في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن .
قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية ، فأنزل الله (1) : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } [النساء:127]
وفي صحيح البخاري ، ومسلم وغيرهما أن عروة بن الزبير سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى ..... الآية} [النساء:3]
فقالت يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأمروا بنكاح من سواهن ([1]).
قاتلت عائشة فاستفتى الناس رسول الله بعد ذلك فأنزل الله تعالى : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء ... الآية}
فبين الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال ورغبوا في نكاحها ، ولم يُلحقوها بسُنَّها في إكمال الصداق .
وإذا كانت مرغوبا عنها لقلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء .
وقالت عائشة فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق ، ثم تأتي السنة ليقوم صاحبها r الذي كان يتيماً تشريفاً لكل يتيم ، تأتي هي الأخرى لتكرم اليتيم تكريماً هو من الذروة بمكان .
فوالله لو لم يرد في السنة إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي r قال :
(( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بالسبابة والوسطى )) ([2])
لو لم يكن فيها إلا هذا الحديث لكفى .
وفي لفظ مسلم : ((كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة ، وأشار بالسبابة والوسطى)) ([3])، أي حتى وإن كان اليتيم أجنبياً عنه ولقد نقل الحافظ ابن حجر قول ابن بطال :
حق على كل من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي r في الجنة ، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك([4]).
وفي الحديث الذي رواه أبو يعلي وغيره وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح : إسناده لا بأس به ، من حديث أبي هريرة عن النبي r قال : (( أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني [ أي تسرع لتدخل معي الجنة] فأقول لها مالك ، ومن أنت ؟! : فتقول : أنا امرأة قعدت على أيتام لي )). ([5])
وفي الحديث الذي رواه النسائي بسند جيد من حديث شريح خويلد بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه أن النبي r قال : (( اللهم إني أخرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة )) ([6])
ومعنى أحرج أي ألحق الحرج والإثم الشديد على من ضيع حقهما ، وأكل مالهما فإني أحذر من ذلك تحذيرا بليغا ، وأزجر عنه زجرا كبيرا .
وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال : (( رأى سعد أن له فضلا علي من دونه فقال النبي r : (( هل تنصرون وبرزقون إلا بضعفائكم ))
رواه البخاري ([7])مرسلا ووصله الحافظ أبو بكر البرقاني في صحيحه وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي r قال :
((الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله ، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل )) ([8]) .
الله أكبر .... والأرملة هي المرأة التي مات زوجها .
أي فضل هذا وأي أجر ؟!
والله إنها التجارة الرابحة في الدنيا والآخرة .
فهذه هي مكانة اليتيم في القرآن والسنة .
ثالثا : عاقبة من يأكل مال اليتيم
ومن ثم يأتي التحذير الرهيب والإنذار الرعيب الذي يفزع القلوب الحية ليبين عاقبة آكل مال اليتيم فيقول جل وعلا :
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]
الله أكبر ... إنها صورة مفزعة ... صورة النار في البطون ..... وصورة السعير في نهاية المطاف .
وقد هزت هذه الآية قلوب الصحابة هزا عنيفا وملأتها بالخوف والرهبة ووقعوا في حرج شديد .
كما قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية ، انطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه عن طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء أي يتبقى من أكل اليتيم فيحبس له ، ولا يأكله أحد حتى يأكله اليتيم ، أو يفسد .
فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله r فأنزل الله عز وجل قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:220]
فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم .
وهكذا رفع المنهج القرآني هذه الضمائر إلى الأفق الوضيء ، وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب ([9]).
رابعا : يُتْمَّ رغم وجود الوالدين
نعم فقد يكون الوالدين موجودين على قيد الحياة ، ومع ذلك فإنك ترى أطفالهم كأنهم في عداد الأيتام لانشغال الوالدين بالعمل أو بغيره إذ الوالد منهمك في عمله وتجارته لا يدري عن حال أولاده شيئا والمرأة منشغلة كذلك بالعمل ، أو بالأسواق ، أو بأحدث الموضات وتخلت عن تربيته للخادمات أو الحاضنات ، فينشأ الطفل كما لو كان يتيما !!!
ورحم الله من قال :
ليس اليتيم من انتهى أبواه إن اليتيم هو الذي تلقى له
من الحياة وخلفاه ذليلا أُمَّا تخلت أو أَباً مشغولا
نعم فاليُتم في أصل اللغة كما قال ابن منظور في لسان العرب :
هو أيضا الانفراد فإذا أمسى الطفل بانفراده ووحدته رغم والديه فهو يَحُسُ باليتم .
فالصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية من كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش عليها .
فإن عود الخير وربي على الإسلام ، سلم في الدنيا والآخرة ، وإن عود على الشر ، وربي على موائد اللئام شقى وخسر ، وكان الوزر على رأس والديه :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]
وأخيراً : كيف تؤمن مستقبل ولدك بعد موتك ؟
والجواب من الله تعالى {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [النساء:9]
فها هو عمر بن عبد العزيز يدخل عليه ابن عمه سلمة بن عبد الملك وهو على فراش الموت فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد أقفرت أفواه ولدك من هذا المال !! فو أوصيت بهم إليَّ وإلى نظرائي من قومك فكفوك مئونتهم .
فلما سمع مقالته قال : أجلسوني فأجلسوه .
فقال : قد سمعت مقالتك يا مسلمة
أما قولك : إني أقفرت أفواه ولدي من هذا المال فوالله ما ظلمتهم حقا هو لهم ، ولم أكن لأعطيهم شيئا لغيرهم .
وأما ما قلت في الوصية : فإن من وصيي فيهم : {اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [الأعراف:196]
وإنما ولد عمر بين أحد رجلين : إما رجل صالح فسيعينه الله ، وإما غير ذلك فلن أكون أول من أعانه بالمال آدع لي بَنيَّ فأتوه .
فلما رآهم ترقرقت عيناه وقال : نفسي فتية تركتهم عالة لا شيء لهم وبكى ، يا بني إني قد ترك لكم خيراً كثيرا تمرون بأحد المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقا .
يا بني إني قد مليت بين أمرين : إما أن تستغنوا وأدخل النار أو تفتقروا وأدخل الجنة فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إليّ .. قوموا عصمكم الله .. قوموا رزقكم الله ، وهذا لا يعارض أبدا الدخول في الأسباب ، فلا مانع على الإطلاق أن تسعى ، وأن تكدح شريطة ألا تضيع حق الله تعالى ثم حقوق أولادك من أجل أن توفر لهم السعادة في حياتك ، وبعد مماتك ، والأصل في ذلك
ما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : (( جاءني رسول الله r يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله ، إني قد بلغ بي الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا ، قلت : فالشَّطر يا رسول الله : قال : لا ، قلت : فالثلث ؟ قال : فالثلث والثلث كثير ثم قال : إنك إن تّذَر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ))(1)
| |
|